"سارق النار ": حول مسرحيّة خليل هنداوي | بقلم جميل علي

من مجلّة "المنتدى" [01 أيّار 1945] | جرايد

 

المصدر: مجلّة "المنتدى".

موعد النشر: الثلاثاء، 01 أيّار 1945.

موقع النشر: جرايد.

 

بقلم جميل علي

 

أخرجت دار الأديب البيروتيّة قبل بضع أسابيع، كتابًا للأستاذ خليل هنداوي، عنوانه "سارق النار". الكتاب مجموعة من المسرحيّات، موضوعاتها خلا واحدٌ منها، مستمدّة من الأساطير الإغريقيّة، وقد سُمّيت المجموعة باسم المسرحيّة الأولى.

والأستاذ هنداوي من أدباء العربيّة الّذين لهم جهود مشكورة بوصل الأدب العربيّ الحديث بأسباب التراجيديا اليونانيّة، الّتي خلدت في تراث الآداب العالميّة، لأنّها تصوّر الطاقات الأصيلة في أعماق الطبيعة البشريّة: كالعواطف القويّة، والإرادة الحازمة، والتجربة الشاملة.

أوّل من روى أسطورة "سارق النار"، هو الشاعر اليونانيّ التمثيليّ الخالد الذكر، إيسكيلوس. عاش في أوائل القرن الخامس عشر قبل الميلاد، بين مواطنين أحرار أباة، فتأثّر بروح عصره، وخلق ما يدعوه نيتشه "أدب القوّة" عند الإغريق، أي الأدب الّذي يغذّي أرواح الكرام، ويمدّهم بالبطولة الّتي تملك الدفاع بكلّ حادث تلمّ به الأيّام، ويهيب بهم إلى الثورة في وجه البطش الغشوم وقوى الشرّ الفاجرة، فيردّونها في حلق خالقها.

 

 

والخلاصة السريعة للأسطورة هي أنّ بروميثيوس، إله النار، كبير الآلهة. لكنّ زيوس، عندما استوى على عرش الآلهة والناس أجمعين، تعالى واستكبر، وطغى وتجبّر، وتنكّر لأنصاره من الآلهة، وصارت نار البغضاء والحسد والغيرة من عبده الإنسان، تأكل صدره، فسام الناس سوء العذاب. وكان بروميثيوس أخا نفرة من الظلم، ينبض قلبه الكبير بالرحمة والحنان، وتأبى مروءته أن يساير الطغاة العاتين، فشقّ عصا الطاعة على زيوس، وسرق النار من السماء وقدّمها لأخيه الإنسان. هذه النار هي رمز للقوّة المادّيّة الّتي تمكّن الإنسان من السيطرة على قوى الطبيعة، واستخدامها في سبيل راحته وهنائه، وهي رمز لجذوة الفكر الّتي ما زالت تحفّز الناس أبدًا إلى ردّ كيد الظالم في نحره.

فهاجت لهذه السرقة ثائرة زيوس، فصبّ جام غضبه على بروميثيوس، نصير الإنسانيّة، وقضى بتقييد البطل بالأصفاد في أعالي جبال القفقاس، وتفنّن بوحي قلبه الشرير، في تعذيب الإنسان السامي بأسوأ ألوان العذاب. هذه المأساة، مأساة الإنسانيّة الّتي أثخنت جروحها قوى الشرّ والعدوان، خلّدها ايسكيلوس، مارد الفكر والخيال، في مسرحيّة تُعَدّ من الطراز الأوّل. فهي مسرحيّة بسيطة في خطّتها، جزلة في ألفاظها، رائعة في أنغام شعرها الغنائيّ. وإنّك لتحسّ عند قراءتها بأنّ الفنّان يتغلّب على التشاؤم بوساطة الفنّ، وخلق الثقة والمسرّة في النفوس. أمّا روح البطل، فقد تطهّرت، وبوساطة الألم، من جميع الغرائز السافلة الّتي يتعثّر في أذيال خطاياها الطالحون، وهي روح زعيم لا تلين قناته في مكافحة القوّة الغاشمة، مهما صُبّ على رأسه من عذاب. وتظهر هذه الروح جليّة في الحوار التالي:

بنت المحيط: إنّ الحكماء يركعون على ركبهم خشية القدر الرهيب.

برومثيوس: أركع على ركبتي، وأتملّق، وأعبد من هو الآن عظيم!

إنّه (زيوس) عندي أقلّ من لا شيء.

...

ومن الشعراء الفحول الّذين مجّدوا "سارق النار"، الشاعران الخالدان: جيته وشلي. كان جيته نبيّ الروح في القرن الثامن عشر، وهو من الأشخاص الّذين وهبهم الله القدرة على أن يفصحوا عمّا في أنفسهم من ألم. وشعره الغنائيّ تغريد قلبه الحزين. وهو في قصيدته "برومثيوس"، الّتي تبلغ الستّين بيتًا، ينصبّ نفسه خالقًا للإنسان السامي على الأرض. وها أنا أبيح لنفسي، بعد كثير من التردّد، ترجمة بعض الأبيات بدلًا من إثبات الأصل. الكلام موجّه إلى زيوس:

"أيّها الإله! لا أعرف تحت الشمس ما هو أحقر منك!

يا صاحب الجلالة! أنت تتغذّى بتعاسة مَنْ يتقرّب إليك بالصلاة والقرابين، وما أكثر ما كنت تجوع، لو أنّ هذه الأرض لا تزخر بالأطفال والشحّاذين والحمقى الّذين يملأ قلوبهم الأمل!"...

"إنّني أربض هنا على هذه الأرض، وأكوّن رجالًا على صورتي ومثالي، وسترى أنّني أخلق أجيالًا من الناس، تتألّم وتذرف الدموع، وتستمتع بالعيش وتطرب، ولكنّها مثلي لا تحترمك!".

 

الصورة المستخدمة في المادّة

 

أمّا شلي، فإنّه خلّد مأساة برومثيوس في مسرحيّة، ذات أربعة فصول، هي في رأيي أروع ما كُتب في موضوع هذه المأساة، ولا شكّ عندي أن الزمان بمثلها لَضَنين. لست ناقدًا في الأدب، وعليَّ وحدي تَبِعَة هذا الرأي. في المسرحيّة فلسفة واضحة خلاصتها أنّ الشرّ عارض في الوجود، وأنّ وجوده في العالم ليس بالضرورة، وأنّ باستطاعة الإنسان السامي أن يقهر الشرّ بمحض إرادته الصارمة، وأن يقيم الحبّ بين الناس على عرش السماء والأرض. وأنت إذا قرأت هذه المسرحيّة تحسّ بأنّ الشعر الغنائيّ فيها هو من وحي "أراتو"، ربّة الغزل والنسيب، وأن لا فرق بين موسيقى الشهر وموسيقى "أوفنباخ" في "حكايات هوفمن"، أو موسيقى فاجنر في "ترستان واسولدا"، وأنّك لَتَشهد في صوره الشعريّة صراعًا عنيفًا بين الذهن والخيال، ينتهي بانتصار الأخير في خلق ما يدعوه كانت، "السامي"، أو أعلى مراتب الجمال. وتدلّ هذه الصور على أنّ الحياة عميقة في ألمها، ولكن بطولة الحبّ السامي وجلال الكفاح ضدّ آلامها يخلقان جمالًا وسرورًا أعمق من تلك الآلام.

...

الآن أنتقل إلى مسرحيّة الأستاذ هنداوي. قرأت المسرحيّة وأنا مستريح الفكر خالي البال - متّبعًا نصيحة "بومارشيه" إلى قرّاء قصّته "حلّاق اشبيلية" - وقضيت في قراءتها للمرّة الأولى سويعة لذيذة ممتعة، كان الأستاذ في خلالها يعرض أشخاصًا عاملين، أراهم وأفهم أخلاقهم بأسلوب موضوعيّ تمثيليّ. ثمّ أعدت قراءتها للمرّتين الثانية والثالثة، فكان إعجابي بالمسرحيّة يتضاءل كلّما أعدت قراءتها، لأنّ عليها طابع الارتجال، فالحوار فيها سريع جدًّا، وإنشاؤها الأدبيّ، على قوّته، ليس رفيعًا ممتازًا، وليس هناك مواقف يطول فيها التأمّل وينسرح فيها الخيال. وقوّة الأستاذ الفنّيّة ثائرة، مضطربة في بعض الأحيان، يعوزها الهدوء والاطمئنان إلى قدرتها على الخلق الفنّيّ. ففي مادّة القصّة فرص لترجمة الحياة ترجمة مهذّبة، وعرض المثل العليا في صورة الواقع لم يستغلّها الأستاذ بالقدر الّذي ينتظره القارئ. وكنت أشعر أنّ الكاتب يحفل بمعانيه أكثر ممّا يحفل بالخيال الرفّاف، ووشي اللفظ، وعذوبة النغم، فلذلك لم أحسّ أنّي كنت تحت تأثير عصا فنّان ساحر يعطّل فيّ القوى العاملة من شخصيّتي، ويذهب بي في فيض من السحر والنشوة إلى انقياد تامّ لسلطانه.

والأستاذ هنداوي كأديب، يجفّ قلمه عند تصوير عاطفة الحبّ. إن ذكر الحبّ لا "يقرع" آذان الأبطال، لأنّ الأبطال من الناس، وهذه العاطفة السامية الطموح، هي ألصق العواطف وأعمقها في الطبيعة الإنسانيّة، ومَنْ لا يطرب لتصوير العشق بأحلامه ولَذّاته وآلامه؟! إنّ صوفيّة هذه العاطفة عندما تتسامى، تصبح قوّة طاهرة بريئة من كلّ شائبة، تطهّر الإنسان من صلصال الأرض، فيصير بإمكانه أن يرى الجمال بعين العقل، لا بعين الجسد. هكذا علّمت ديوتيما سقراط، ولا بأس على الأستاذ إذا تتلمذ على نفس الأستاذة.

 

 

عَمار: رحلة دائمة تقدّمها فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، ليقفوا على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين قبل نكبة عام 1948، وليكتشفوا تفاصيلها؛ وذلك من خلال الصحف والمجلّات والنشرات الّتي وصلت إلينا من تلك الفترة المطموسة والمسلوبة، والمتوفّرة في مختلف الأرشيفات المتاحة. ستنشر فُسْحَة، وعلى نحو دوريّ، موادّ مختارة من الصحافة الفلسطينيّة قبل النكبة، ولا سيّما الثقافيّة؛ لنذكر، ونشتاق، ونعود.